بين إخوان الربيع وليبرالييه/ عبد العالي غالي

تعلمت من دراستي لمناهج البحث أن دراسة أية ظاهرة اجتماعية دراسة مجدية تستوجب أخذ كل من العامل الذاتي والموضوعي بعين الاعتبار، وإلا بقي الباحث يدور حول الظاهرة عاجزا عن الخوض في صلبها. فالطريقة التي يصنع الناس وفقا لها حياتهم هي التي تتحكم بتكوينهم وبنوع العلاقات التي تقوم فيما بينهم، وتتحكم بالتالي في منظومة القيم الحقوقية والاجتماعية والسياسية التي يعتنقونها، ويتصرفون فيما بعد وفقا لها.
ولأني اعلم علم اليقين أن اختلاف الرأي في العلم لم يكن أبدا سببا من أسباب الحقد والكراهية، وإنما هي العواطف والأهواء ما يدفع الناس إلى كثير بغض وعداء. كما وأني متأكد أن من ابتغى السلطة وحدها كان خليقا ألا يحقق في اختيار الوسائل وتدبر العواقب. وان الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب. ولكون الوضع عندنا آسن مذ سقطت الفحولة العربية في مستنقع الجاهز من الأسطورة يوم خلعت "شجرة الدر" نفسها بشموخ تاركة كرسي الحكم لأمراء الانتصاب بلا فحولة (...) رغم أنها من قادت الحرب ضد الصليبيين وأسرت "لويس التاسع" ملك فرنسا في معركة المنصورة... لكل ذلك، لن استغرب يوما إن ظهر من يتجرأ لينفي عنا انتماءنا لجماعة المسلمين لكوننا لا نفكر وفقا لثقافة حكام ما بعد "ربيع العرب" هذا... فهذه الظاهرة ليست إلا امتدادا لما كان عليه الحال أيام الخلافة التي أسقطت "شجرة الدر"، وأبدعت الهرطقة والزندقة وغيرها من مرادفات نُعت بها كل من خالف سلطة "الخلافة" وطريقتها في تسيير الدولة، بغرض إهدار دمه والقضاء عليه وعلى فكره. أوليس البعوض هو سيد الأوضاع الآسنة؟!!!
تلكم كلها خواطر جرت في خيالي وأنا أحاول عبثا فهم أسباب كثير من وعكات هذا الزمن العربي الموبوء، والتي من تجلياتها الأواصر الوثيقة المستحدثة التي أضحت تربط بين القوى التي تصر بعنف بغيض على أن تنعت نفسها بالإسلامية، والقوى التي تتبجح وتنفخ ريشها كمثل ديكة المصارعة إذ تصف نفسها بالليبرالية... فبرغم الغياب المعلن للرابط الإيديولوجي نجد أن هذه القوى قد دخلت في تحالفات بنيوية لتنصب نفسها بديلا منتظرا للقوى الإقطاعية الراكدة التي حكمت هذا البساط العربي المهترئ لعقود من الزمن.
غير أنه وبقليل تأمل يتبدى لنا أن الجامع بين الطرفين هو العقل المستعار. إذ الأولون يبنون منظومتهم الفكرية عبر عقل مستعار من الماضي يقول بتقليد الذات القديمة، وذاك مفهوم الأصولية. أما الآخرون فمرجعيتهم العقل المستعار من الغرب القائل بوجوب تقليد الآخر الأوروأمريكي، وذاك هو المفهوم الحقيقي لليبرالية... ولا غرابة أن يتحالف التقليد مع التقليد ما دام الفرق لن يتجاوز المقلّد بفتحة على اللام، وما دام صاحب الكسرة هو من يعمر أرضا مشهود لها بالتخلف الثقافي والاقتصادي والسياسي وبالتنافس على المراتب الأخيرة في سلم التنمية البشرية... أوليس البعوض هو سيد الأوضاع الآسنة؟!!!
يجب أن نلغي عقولنا تماما كي نؤمن أن كل ما يبشرنا به "إخوان الربيع" صحيح فقط لأن على جباههم سواد من اثر السجود، أو لأنهم يتسنون بالنبي الكريم إذ يحلقون الشارب ويعفون عن اللحية... لغيرنا أن يرضى بذلك إن شاء، أما نحن فنأبى أن نتحول إلى أدوات حكائية، تردد مع المرددين وتصفق مع المصفقين وتحاول جاهدة إقناع الناس بما سمعته وآمنت به إذ قال به الشيوخ فقهاء البترودولار، وتحدثت به فظاعيات الشيوخ أمراء البترودولار... وهنا أيضا يتبدى البترودولار كرابط بين كثير شيوخ (...)  فالغرض من كثير بهرجات، في نظرنا، لن يتجاوز إرضاء حاجات شعب يريد المعجزات في كل شيء، ولا يكره أن يقال له أن ما يحدث في عصرنا هذا قد سبق التبشير به في كتب الأقدمين، وانه كان منتظرا قبل أن يجيء بوقت طويل... أما نحن فلا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها، ونستعين بها على النقد والتمحيص.
قد نتفهم من يثيره ما يحدث في ميادين التحرير (...) فيصيخ السمع لكل الأخبار بسيطها ومعقدها... ويرى في انهيار الديكتاتوريات مسألة وقت ليس إلا... ثم يرى بزوغ عصر الإنسان على مرمى غضب... وفي كل هذا تكون الذات اكبر في مراميها من الموضوع... قد نحاول أن نقتنع معه أن الخمول قد يعطي أحيانا ما لا تعطيه النباهة والذكاء، خصوصا وأننا في زمكان انتصر فيه الرصيد البنكي على الرصيد المعرفي... والعقل فيه تحت رحمة الجهل منذ قرون. فكيف لا يُصفع النبل الثقافي بالصناديق الفارغة حتى وان ملئت بشفافية... تلك الشفافية الشاردة التي أصبح يلوكها حتى البكم من السياسيين دون خجل، ما حولها مطية خلاعة وان كان أصلها من الحياء... أو ليس البعوض هو سيد الأوضاع الآسنة؟!!!
غير أننا لن نساير الغباء ولن نجامله إذ نرى "المفكر العربي" وقد وضع نفسه تحت تصرف عواصم التخمة المالية الغارقة في العصور الوسطى، تنظر له في الحكامة الرشيدة والديمقراطية وحقوق الإنسان... وتحت رحمة منابر التخمة الدينية، الغارقة بفتوى إرضاع الكبير وجواز الاستمناء بالجزر، إذ تحل له التحالف مع الناتو والاستعانة بجهاديي "البلاك ووتر" بعدما ابانو عن تفانيهم وإخلاصهم في القيام بواجباتهم لأجل بلوغ الأهداف النبيلة، من خلال جهادهم الأكبر في الفلوجة (...) ثم نرى الأتباع وأتباع الأتباع يهنئ بعضهم بعضا إذ يتابعون على الشاشات بيانات الجويمعة الحمدية وهي تنتصر للشعب العربي... إن كل ذلك لم يكن ليحمل على الاطمئنان إلا من رزق حظا وفيرا من السذاجة لم يتح لنا قدره. ألم نقل بأن البعوض هو سيد الأوضاع الآسنة؟!!!
وحتى لا نتوه عن التحالف المستحدث والأواصر التي أضحت متجذرة بين "إخوان" الربيع و"ليبرالييه"، كان لزاما علينا أن نفكر في مفهوم الحداثة ومن منظور كلا الطرفين... فالحداثة في عرف اللغة قوة رفض وتساؤل وتحريك، وما أظنها قط كانت وعيا جذريا شاملا في بنية العقل المستعار الذي يميز الطرفين.
هم أعداء الحداثة لأن القول بها اعتراف بنقص أو فراغ في القديم، وهذا ما لن يقبله متضخمو الأنا من "إخوان الربيع"... فهي خروج عن الأصول وتنكر للتراث وطمس للهوية... ومن هنا يتبدى لنا الرابط بين البدعة والهرطقة... أليسوا من يصر على أن يستفتح كل خطاب بالتأكيد على أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة؟؟ فالحقيقة في عرفهم مبعثرة في أوراق الزمن العربي الصفراء وليس في التجربة والواقع. فهي معطاة نهائيا ولا حقيقة غيرها، ودور الفكر عندهم هو أن يشرح ويعلم انطلاقا من الإيمان بهذه الحقيقة. لا أن يبحث ويتساءل من أجل الوصول إلى حقائق جديدة قد تكون مغايرة. فأقصى ما يسعون إليه في عملية إنتاج الفكر هو التحيين المتواصل للماضي المشرق، مما يحول الذات العربية إلى ركام من الاستيهامات يتبدى معه الزمن العربي وكأنه خارج الزمن.
أما "الليبراليين" فكل حداثتهم لن تتجاوز نسخ ما توصل إليه الغرب نسخا ميكانيكيا يتجاهل كل الاختلافات السوسيوثقافية بين الشعوب، وهم في ذلك إنما ينفذون الأجندة الامبريالية المبنية على ثقافة الاستهلاك اقتصادا وفكرا وسياسة.
وحيث أن الأقوياء اليوم بلا عهود وبلا مواثيق، يبقى أن نقول لإخوان الربيع أن الغرب الامبريالي لا يطبع العلاقات مع المعتدلين من القادمين من العصور الوسطى حبا فيهم، وإنما هو بذلك ينزع الفتائل ليتفرغ لمواجهة القابعين في العصر الوسيط، ثم بعد ذلك لكل حادث حديث. فقد تيقن الغرب أن السبيل لتنظيف الأرض من الجذام لن يتم إلا بالتمييز بين المتطرف والأكثر تطرفا، ثم في مرحلة ثانية بين المعتدل والأكثر اعتدالا  ليفسح بعد كل ذلك المجال أمام ليبرالية فكرية وسياسية وتجارية تتكفل بتلقيح الحفدة وتعديل جيناتهم...

المغرب

CONVERSATION

0 comments: