أبو الحسن التهامي يرثي ابنه ، حياته ، مرثيته وما حولها/ كريم مرزة الأسدي

هَذَا يَرْثِي نَفْسَهْ،هَذَا يَرْثِي ابْنَهْ،للهِ الْبَقَاءُ ،عَ الدّنْيَا الْعَفَاءُ...!!‍

حكم المنية في البرية جـــارِ **** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً * حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها ** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومُكلّفُ الأيّام ضــد طباعـــها ** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنّــــما ****أعماركم سفرٌ من الأسفار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما * خُلُقُ الزمان عداوة الأحرارِ
لاريب لحظات استلهام هذه القصيدة الفريدة الرائعة ، هي لحظات قفز فيها الفكر الإنساني بدافع الغريزة الأبوية الهائلة إلى مساحة السر الخفي لتكوين الشبكات الترابطية اللانهائية النوعية والفردية  ، وكيفية إبداع تشكّلها ، وأنّى يحين تكسّرها لاستمرار ديمومتها ، وكل الأحكام تجري بأسرع من رمشات العيون ( بينا يرى ... حتى يرى !!) ، ولا يهمها قول القائلين قد طبعت أو طبّعت على كدر أو صفو من الأقذاء والأكدار، أو الأقدار والأقذارِ ، لك أن تقول ما تشاء ، وقد أجبرتك أن تطاوعها مرغماً حتف أنفك  !!! : 
 ومُكلّفُ الأيّام ضــد طباعـــها ** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
يا صاحبي أنت  الشاعر  ، وإن أقرّ معك أنّ الزمان ليس بمسالم ، ولكن يؤسفني - رغم محنتك المريرة - أن أسايرك أنه عدواة الأحرار ، بل أنا مع المتنبي العظيم (توفي 354 هـ / 965 م) :
    أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا **** فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
ومن قبله بأربعة قرون قال الفتى العربيد  طرفة بن العبد (توفي 569م): 
أرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بمالِهِ *** كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَة ِ مُفسِدِ
الزمان ليس بعدوٍ للأحرار الثائرين المقتحمين  ، وليس بصديقٍ للعبيد الخامدين الخانعين ، ربما هو أقرب إلى أولئك من هؤلاء، وإليك المتنبي اللجوج مرّة ثانية  : 
وقد يترك النفس التي لا تهابه ***  ويخترم النفس التي تتهـيب
ولعل شيخنا الحكيم الجاهلي المعلم زهير بن أبي سلمى ، كان أصدق   تعبيراً لواقع الحياة ، ومسيرة الأيام ، إذ تدور كما تشاء ، وتخبط خبطة عشواء دون درايةٍ ولا هدىً ، ولكن الناس يلعنون الزمان والأيام والدهر والحظ والقدر ، لأنهم عاجزون قاصرون ، والله غالب على أمره وأمرهم !! : 
رأيت المنايا خَبْطَ عشواء مَـنْ تُصِـبتُمِتْـهُ ومــن تخـطـئ يُعَـمَّـرْ فيـهـرَمِ           
أعرفك الآن  بصاحبي الشاعر ،هو : التهامي ( أبو الحسن علي بن محمد بن فهد  ) شاعر عصره  المشهور، وإن يعد من أصحاب شعراء الواحدة  ، لشهرة قصيدته التي نحن بصددها ، ولكنه صاحب ديوان صغير مطبوع عام 1813 في الاسكندرية . (1)
  " نشأ أبو الحسن التهامي في تهامة المخلاف السليماني ( جازان ) كان في بداية حياته كما يقول الباخرزي في (دمية قصره ) : من السوقة، وُلِّي خطابة الرملة، ثم انقطع إلى بني الجراح حكام المخلاف آنذاكـ يمتدحهم، ويستضيء بهم ويقتدحهم، وكانت له همة في معالي الأمور تسول له رئاسة الجمهور، فقصد مصر واستدل على أموالها، وملك أزمة أعمالها،انتحل مذهب الاعتزال، وسكن الشام مدة، ثم قصد العراق والتقى الصاحب ابن عباد، وعاد فتقلد الخطابة بجامع الرملة، واتصل بالوزير المغربي فكان من أعوانه في ثورته على الحاكم الفاطمي، " (2)
عصره كان عصراً مضطرباً متعدد الأهواء والميول والأعراق والأقوام ، ربما أدرك المتنبي ( توفي 354 هـ / 965 م) وهو طفل صغير ، ولكنه عاصر الشطر الأكبر من حياة المعري  من ولادة المعري ( 363 هـ / 973 م ) حتى مقتل التهامي نفسه في ( 416هـ / 1025 م ) ، و المعري ( توفي 449 هـ / 1057 م)  كان قد سمع بقصيدة رثائه لولده  - موضوع حديثنا - فأعجب بها ،وكلما وَرَدَ عليه أديب استنشده إياها ، ولما جاء التهامي إليه ، ولم يكن يدري بقدومه ، وألقى فصيدته أمامه ، ولما أتمها ، قال له  أبو العلاء  : أحسنت ولأنت صاحبها التهامي؟ قال : نعم .
  ولما خرج التهامي ، سُئل المعري ، كيف عرفته ؟!! 
  قال : سمعت منه القصيدة سماعاً يدل على أنه صاحبها بخلاف سماعي أياها من غيره. (3)
الحق لم تذكر كتب تاريخ الأدب العربي سنة تولّده ، المهم عاصر الدولة العباسية ، والخلفاء في أضعف وأفقر حالاتهم ، بغداد يسيطر عليها البويهيون ، وقد التقى بوزيرهم الصاحب بن عباد ، وكانت الموصل وديار بكر وحلب تحت حكم الحمدانيين ، ومصر يهيمن عليها الفاطميون ، وكان الحاكم بأمر الله في عزّ حكمه ( توفي 411 هـ / 1021 م) ، ولا أعرف كيف تورط شاعرنا معهم ، ودخل معمعة وزيرهم المغربي !!
الرجل كان كثير الحركة بهمة عالية ، فتطلع للزعامة والرئاسة حتى وقع فريسة لهذا الاندفاع في عصر قلق ( الطايح فيه رايح) ، و ( مجالس الفردة) تلخص الأمور فائلة :   " كان التهامي نِضْوَ سفر وحليف رحلة ، تنقل من مكة إلى دمشق ، ثم إلى طرابلس ثم بغداد ، فالرِّي ، فالرملة ، فالموصل ، فآمد ، فميّا فارقين ، فحلب ، فالأنبار ، حتى أنتهت به الرحلة في القاهرة ، تلك التي خُتمت بها رحلته في الدنيا حيث لقي نهايته سجيناً في خزانة البنود في القاهرة في التاسع من جماد الأولى سنة 416هـ "(4)  
     ويتمها  الباخرزي فائلاً :"  وقصد مصر واستولى على أموالها، وملك أزمة أعمالها، ثم غدر به بعض أصحابه فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي حتى مضى لسبيله . (5) ، وذكرنا سنة مقتله .  
  وعن ( الموسوعة الحرة ) : وفي (نضرة الإغريض) نوادر من أخباره، منها أن حسان الطائي أقطعه حماة لقصيدة قالها في مدحه. ولم يثبت ابن خلكان قصيدته المشهورة ، لأنها كما قال من القصائد المحدودة. قلت: والقصائد المحودة هي التي تصيب حافظها بالسبب الذي كتبت لأجله.أهمله التاريخ ولم يكتب عنه كثيرا . (6) 
ولكن ما هكذا جاء في ( وفيات ) ابن خلكان ، الخبر غير دقيق ، ليس هو الذي قال ، وإنما ذكر الناس تقول..... !! ، ثم صاحب ( الوفيات ) ، نقل العديد من أبياتها مقارناً ، محللاً ، أنقل بعض ما دوّن ابن خلكان : أبو الحسن علي بن محمد التهامي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام الأندلسي في كتاب " الذخيرة " في حقه: كان مشتهر الإحسان، ذرب اللسان، مخلى بينه وبين ضروب البيان، يدل شعره على فوز القدح .
 وله ديوان شعر صغير أكثره نخب. ومن لطيف نظمه قوله من جملة قصيدة طويلة مدح بها الوزير أبا القاسم ابن المغربي وله في المديح وقد بالغ فيه .
 وله مرثية في ولده، وكان قد مات صغيراً، وهي في غاية الحسن ولم يمنعني من الإتيان بها إلا أن الناس يقولون: إنها محدودة، فتركتها، لكن من جملتها بيتان في الحساد ومعناهما غريب إني لأرحم حاسدي لحر ما *** ضمت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم** في جنة، وقلوبهم في نار
ومنها :
وتلهب الأحشاء شيب مفرقي ***  هذا الشعاع شواظ تلك النار 
ومعنى هذا البيت مأخوذ من قول أبي نصر سعيد بن الشاه، وهو:
قالت اسود عارضاك بشعرٍ*** وبه تقبح الوجوه الحسان
قلت أشعلت في فؤادي ناراً *** فعلـــى وجنتي منه دخان 
 والتهامي هذه النسبة إلى تهامة، وهي تنطلق على مكة، حرسها الله تعالى، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تهامي لأنه منها، وتنطلق أيضاً على جبال تهامة وبلادها، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن، ولا أعلم هل نسبة هذا الشاعر إلى مكة أم إليها، والله أعلم (7)
والحق يختلف الباحثون حول مكان ولادته ، ناهيك عن مكان نشأته وترعرعه ، ولكن من ختام ما نقلناه عن ابن خلكان ، نستطيع أن نتفهم إشارة الشاعر  إلى مكة ، بل وزعمه  أنّه منها في أحلك أيام سجنه :
أهذا التهامي من مكة *** برجليه يسعى إلى حتفه
وقوله الآخر : 
على أهل مكة مني السلام ***  ومن يصفيني الود أو أصفه
ويكاد يجمع من أرخ له كاالباخرزي في ( دمية قصره ...) : "  كان له ولد واحد هو الحسن ، وقد توفي صغيراً في مدينة الرملة " (8)  ، وابن كثيرفي ( بدايته ونهايته)  : " وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا  " (9 )  ،  
هذه عبارة غامضة ، نسبية ، كم كان عمرهذا الصغير ؟!! ، وما مدى تأثيره على نفس أبيه الذي رثاه  بثلاث قصائد ، إحداها ملأت الدنيا ، وشغلت الناس  ، واستأثرت على قصائد رثاء عديدة لشعراء عمالقة ، وفي الثانية كنّاه أبا الفضل :
أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري *** فخُـيـل لــي أن الكـواكـب لا تـســري
 يذكر الباخرزي قائلاً: " وكنت نقلت في صباي قصيدة له يرثي بها ابنه أبا الفضل من خط الحاكم أبي حفص عمر بن علي المطوعي رحمهم الله. وحفظتها وراء ظهري، وعددتها من ذخائر دهري" (10) .
المرحوم أبو الفضل وحيد شاعرنا التهامي ، على ما يبدو لي ، لم يكن صغيراً عند موته  !! وإنما فتى أو في مرحلة مراهقته الشبابية ، تأمل قوله :  
 إني وترتُ بصارم ذي رونقٍ ***** أعــددتهُ لـطِــلابةِ الأوتارِ
 زَرِدً فأحكم كل موُصِلِ حَلْقَةٍ *** بحُبَابَـةٍ في مـوضِع المسمارِ
 لو كنت تمنعُ خاض دونك فتيةٌ ** منا بحور عـواملٍ وشـفـارِ
 فَدَحَوا فويق الأرضِ أرْضاً مِنْ دَمٍ * ثم انثنوا فبنوا سماء غُبَارِ
إذن شاعرنا قد وتر بصارمٍ ، والصارم قادر على دخول الحروب والقتال ، والكرّ والفر، فهو فتى الفتيان ، الذي أعدّه  لأخذ ثاره ، وكان الشاب حسن المظهر، أنيقاً ، يسرّ الناظرات، يلبس الدرع ، ويحبك حلقاته  تأهباً لمنازلة الأعداء ، ولكي لا تنفذ السهام إليه ، وهذا المكنى بأبي الفضل ، كان محاطاً بفتية من أصدقائه وخاصته في الموقف الصعب مستعدين بشجاعة وفروسية أن يفتدوه بأنفسهم ...فذلكة الكلام هذه القصيدة البالغة الروعة ، وأردغها بقصيدتين أُخريتين ، ما كانت في حق طفل صغير ، كما يروي مؤرخو الأدب أحدهم عن الآخر دون تحليل وتأمل  ، لذلك قد نوّهت في بداية مقالتي ، أن التهامي قد أدرك المتنبي ، وهو صغير !!!    
   المهم إليك القصيدة الفريدة التي تعدّ من أروع قصائد الرثاء العربي ،كما تلذذت بها ، وتعبت في تدوينها ، والله الغالب على أمره  :
 حُكمُ المَنِيَّة في البَرية جارِ****  مــا هــذه الدنـيـا بـــدارِ قـــرارِ
 بينا يُرى الإنسان فيها مُخْبِراً** حتـى يُـرى خـبـراً مــن الأخـبارِ
 طُبعت على كدر وأنت تريدها ***  صَـفْــواً من الأقذاء والأكـدارِ
 ومكلِّـفُ الأيـام ضـد طباعهـا ** مُتًطلِّـب فـي المـاء جـذوة نــارِ
 وإذا رجوت المستحيل فإنما **  تبني الرجـاء على شفيـر هــارِ
 فالعيش نوم والمنية يقظة **** والـمـرء بينهـمـا خـيـال ســارِ
 والنفس عن رضيت بذلك أو أبت ** مــنـــقـادة بـأزمة الأقـدارِ
 فاقضوا مآربكم عِجالاً إنما ****أعمــاركم سفرٌ مـن الأســـفـارِ
 وتراكضوا خيل الشباب وبادروا**أن تـســتــرد فإنهــن عـوارِ
فالدهر يخدعُ بالمنى ويغص إن ** هَـنّا ويهدم ما بنى بــبـوارِ
 ليس الزمان وإن حَرصتَ مسالماً * خُلُقُ الزمان عدواةُ الأحرارِ
 أني وترتُ بصارم ذي رونقٍ ***** أعــددتهُ لـطِــلابةِ الأوتارِ
 زَرِدً فأحكم كل موُصِلِ حَلْقَةٍ *** بحُبَابَـةٍ في مـوضِع المسمارِ
 لو كنت تمنعُ خاض دونك فتيةٌ ** منا بحور عـواملٍ وشـفـارِ
 فَدَحَوا فويق الأرضِ أرْضاً مِنْ دَمٍ * ثم انثنوا فبنوا سماء غُبَارِ
 قومٌ إذا لبسوا الدروع حسبتها*** سُحُـباً مزرّرةً علـى أقــمارِ
 وترى سيوف الدارعين كأنها ** خُلُجٌ تُـمَــدُّ بـها أكــفُ بـحارِ
لو أشرعوا أيمانهم من طولها ** طعنوا بها عَـوْضَ القَـنَا الخَطَّارِ
 شُوسٌ إذا عُدِمُوا الوَغى انتجعوا لها * في كُلِّ أوْبٍ نُجْعَـةَ الأمطارِ
 جَنَبُوا الجياد إلى المطِيِّ ورَاوَحُوا * بَيْنَ السُّروج هــناك والأكْـوَارِ
 فكأنما مَلَئوا عِيَاب دُرُوعِهِــمْ ** وغُمُـودَ أنْصُلِــهـم سَــرَابَ قِـفَـارِ
وكأنما صَنَعُ السّوَابِغ عَـزَّه **** مــاءُ الحديـدِ فصـاغَ مـاءَ قَــرَارِ
 فتَدرَّعوا بمتُون ماءٍ جــامدٍ ****** وتَقَنّـعـوا بِحَـبَــابِ مــاءٍ جـارِ
 أُسْدٌ ولكن يُؤْثِرُون بِزادِهِـــم **** وَ الأُسْــدُ ليـس تَدِيــنُ بالإيـثَـارِ
 يَتَزَيَّنُ النادي بِحُسنِ وجوههـم***  كَــتَــزَيُّــنِ الـهَالاتِ بــالأقــمَارِ
 يَتَعَطَّفُون على المُجاورِ فيهـم ** بالمـنْـفِـسَـاتِ تَـعـطُّـف الأَظـــــآرِ
من كُلِّ مَنّ جَعَلَ الظُّبى أنْصَارَهُ ** وَكـرُمْنَ فاستَغْـنَى عَـن الأنْـصَارِ 
 والليثُ إن بارَزْتَهُ لم يَعْتَمِدْ **** إلا عـلــى الأنـيـــــابِ والأظْــفَــارِ
 وإذا هوَ أعتقَلَ القناةَ حَسِبْتَهـا **** صِلاً تَـأبــطــهُ هـــزبـــرٌ ضــارِ
زرَدُ الدِّلاصِ مِنَ الطِّعَانِ بِرُمْحِـهِ *** مِـثْـلُ الأسَاوِر في يـدِ الإِســوَارِ
 ويَجُرُ حِينَ يَجُـرُ صَعْدَةَ رُمْحِـهِ *** في الجَحْفَـلِ المُتَضَايِـقِ الجَـرِّارِ
 ما بَيْنَ تُرْبٍ بالدماءِ مُلَبَّــدٍ ** زَلِـــقٍ وَنَـقْـعٍ بـالطِّـرَادِ مُـثَارِ
 والهونُ في ظِلِ الهوينى كامنٌ * وجلالة الأخْطَارِ في الإخْطَارِ
 تَنْدَى أسِرَّةُ وجههِ ويمينه *** فـي حالة الإعسار والإيسـارِ
 ويَمُدُّ نحو المكرُمـاتِ أنامِلاً *  لـلــرِّزْقِ فــي أثْنَائِهنَ مَـجَارِ
 يَحْوِي المعَالي غَالِباً أو خَالِباً** أبـداً يُـدَاني دونها ويُدَاري
 قد لاح في ليلِ الشبابِ كواكبٌ * إنْ أُمْـهِلَتْ آلَتْ إلى الإسفارِ
 يا كوكباً ما كان أَقصرَ عُمْرِه ** وكذا تكونُ كواكـبُ الأسحارِ
 أُثْنـي عليـه بإثْـرِه ولـو انّـه ** لم يُـغْـتَـبَـط أثـنـيتُ بــالآثارِ
 وهِلالُ أيامٍ مضى لم يَسْتَدِر** بَـدْراً ولم يُمهَـل لـوقـتِ سِرَارِ
عَجِلَ الخسُوفُ عليه قبلَ أوَانه ** فَـمحَاه قـبلَ مَـظِـنَّةِ الإبْدَارِ
واسْتُلَّ من أتْرابِه وَلِدَاتِـه ***  كالمُقْلَةِ اسْــتُلَّتْ مِنَ الأَشْفَارِ
 فـكــأن قـلـبـي قـبـرهُ وكأنه *** فِــي طَـيِّه سِــرٌ من الأسْـرَار
 إن يُحتقـر صِغَـراً فَـرُبَّ مُفَـخَّمٍ* يـبدُو ضَـئِـيلَ الشّـخْصِ للنُّظَّارِ
 إنّ الكواكـبَ في عُلّوِ مَحلِّها ** لـتُرى صِغَاراً وهي غـيرُ صِغارِ
 وَلَدُ المُعزَّى بعضٌه فَإذا انْقَضى** بَعْـضُ الفـتى فالكلُ في الآثارِ
 أبكِيه ثم أقولُ مُعتَذراً لــه **** وُفِّقــتَ حيـنَ تــــــركـتَ أَلأَم دَارِ
جَاورتُ أعْدَائي وجاورَ ربَّهُ **** شَتَّـان بـيـنَ جِـوَارهِ وَجِــوَاري
 أشكو بُعَادكَ لي وأنتَ بموضِعٍ** لولا الردى لسَمِعْـتَ فيه سِـرَاري
 والشرقُ نحوَ الغربِ أقربُ شُقَّة * من بُعـدِ تِـلكَ الخمسةِ الأشْـبَارِ
 هيهات قد عَلِقَتْكَ أشرَاك الردى ** واعْـتَاقَ عُمْرَكَ عَائِقُ الأَعْمَارِ
ولقد جريتَ كما جَرَيـتُ لغايةٍ *** فبلغْتَهَـا وأبـوكَ في المِـضْـمَارِ
 فإذا نطقتُ فأنتَ أولُ منطقي ** وإذا سكـتُ فـأنتَ فــي إضـمـاري
 أُخفِي من البُرحـاءِ نـاراً مثلمـا ** يُخفِـي من الـنـار الـزنادُ الواري
وأُخَفِّضُ الزَّفَرَتِ وَهْيَ صَوَاعـدٌ *** وَأُكَفـكِفُ العَـبَـرَاتِ وهيَ جَـوَارِ
وشِهَابُ زَنْدِ الحُزْنِ إن طَاوَعتُهُ *** وَارٍ وإن عَــاصَــيْـــتُــهُ مُتَـوارِ
 وأكفُّ نِيران الأسى ولرُبّمَـــا *** غُلِـبَ التّصَــــبُّـرُ فارتَمَـتْ بِـشَـرَارِ
 ثوبُ الرياء يَشِفُ عمّا تَحْتَهُ ****** فــإذا التَحَـفــتَ بــهِ فـإنـكَ عَــارِ
 قَصُرتْ جُفوني أم تبَاعَدَ بَيْنَهَا ****  أم صُــوِّرَتْ عَـيْـنِـي بِـــلا أَشْــفَارِ
جَفَتِ الكَرَى حتى كأن غِرَارهـا ** عِـنْـدَ اغْتِـمَـاضِ العـيـنِ حَــدُّ غِــرَارِ
 ولو استَزَارَت رَقدةً لرمى بها ***** مــا بَـيـنَ أجْفَـانِـي مـــنَ الـتَّـيَّـــارِ
 أُحْيِي ليَالِي التِّمِّ وهــي تُمِتُني **** وَيُـمِـيـتُــهــن تَــبَـــلُّـــجُ الأنــــــــوَارِ
 حتى رَأَيْتُ الصُّبْحَ يَرْفَعُ كَفَّــهُ ****** بالضَّـوءِ رَفْـرَفَ خَيْـمَـةٍ مِــنْ قَــارِ
 والصُبحُ قـد غَمَـرَ النجـومَ كأنـه ***** سيـلٌ طغـى فطـمـا عـلـى الأنــوارِ
 وتلهب الأحشاءِ شَيَّبَ مَــفرِقي **** هــذا الضـيـاءُ شُـــواظُ تـلــك الـنَّــارِ
 شابَ القَذَالُ وكُلُّ غُصـنٍ صَائـرٌ ***  فَيـنَـانُـهُ الأَحْـــوَى إلــــى الإزهـــارِ
 والشِّبْهُ مُنجَذِبٌ فَلِم بِيضُ الدُّمى ** عـن بِــيــضِ مَـفــرِقِــه ذواتُ نِــفَــارِ
 وتوَدُّ لو جَعَلَتْ سَـــوادَ قُلُوبِها ***** وسَــــوَادَ أعيُنهـا خِضَـاب عِــذَاري
 لا تَنفِرُ الظَّبياتُ عنه وقـد رأت ****** كيفَ إختلافُ النَّبْـتِ فـي الأَطْـوَارِ
 شَيْئَان يََنْقَشِعَـانِ أولَ وَهْلَـــــةٍ  *** شَـــرْخُ الشَّـبَـابِ وَخُـلَّـةُ الأشْــرَارِ
 لاَ حَبَّـذَا الشّيْـبُ الوَفِـيُّ وَحَبَّــذَا **** ظِـــلُّ الـشَّـبَــــابِ الـخـائِــنِ الــغَــدَّارِ
 وَطَرِي من الدُّنْيَا الشّبَابُ وَرَوْقُهُ ***** فـإذا انْقَضَـى فقـد انقَضَـت أوطَـاري
 قَصُـرَت مسافتُـهُ ومـا حسنَاتُـهُ *****عـــــنــــــدي ولا آلاؤه بِـــقِــــصَــــارِ
 نَزدَادُ هَمَّاً كلما ازدَدنــــــــا غِنىً ***** والفَقْـرُ كُــــلُّ الفَقْـرِ فــــــي الإكْـثَـارِ
 ما زادَ فَوقَ الزَّادِ خُلفٌ ضَائِــعٌ ****** فـــي حــــــــادثٍ أو وارثٍ أو عَــــارِ
 إني لأرحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مــــا  ******* ضَـمَّـت صُـدُورُهُـم مــــــن الأوغَـــارِ
نَظَروا صنيع الله بي فعُيُونُهــــــم  ******* فــي جَـنَّـةٍ وقلُوبُـهُـم فـــــي نـــارِ
 لا ذَنْبَ لي كم رُمتُ كتمَ فَضَائِلي **** فـكـأنـمــا بــرقــعــتُ وجــــــه نـــهـــارِ
 وستـرتُـهـا بتـواضُـعـي فتَطـلَّـعـتْ **** أعـنـاقُـهـا تَـعْــلُــو عــلــى الأســتَـــارِ
ومــن الـرجـالِ معـالـمٌ ومـجَـاهـلٌ *** ومـــــن الـنــجــومِ غــوامِـــضٌ ودَرَاري
 والناسُ مُشتَبِهُون فـــــي إيرَادهِم ***** وتَـبَـايـنُ الأقــــوَامِ فــــي الإصـــــدَارِ
 عَمْرِي لقد أوطَأتُهُم طُرُقَ العُلى ***** فعَـمُـوا ولـــم يَـقـفـــــوا عـلــى آثـــاري
 لـو أبصَـروا بِقُلُوبِهِـم لأستَبـصَـرُوا *** وعَمَـى البَصَائِـر مِـن عَـمـى الأبـصَـارِ
 هلا سَعَوا سَعيَ الكِرَامِ فأدرَكـــــوا ***** أو سَــلَّــمُــوا لــمــواِقِـــعِ الأقـــــــدَارِ
 ذَهَبَ التكَرُّمُ والوَفَـاءُ مـن الــــورى *** وتَــصَــرَّمَـــا إلا مـــــــن الإشــــعَــــارِ
 وَفَشَت خِيَانَات الثِّقـاتِ وَغَيرهُــــــمْ **** حــتــى اتّـهَـمـنَــا رُويَـــــةَ الأبــصَـــارِ
 ولربما اعتَضَدَ الحَلِيمُ بِجَاهِـــــــــلٍ   ***** لا خَيْــــــرَ فـي يُمـنَـى بِغَـيْـر يَـسَـارِ
 لله دَرُّ الـنَّــائِــبَــات فَــإنَّــهــــــــــا ***** صَــدَأُ الـلِّـئَـــــــامِ وصَـيـقَـلُ الأحْـــرَارِ
 هل كنــــتُ إلا زَبـــــرَةً فَطَبَعنَـــــنِي **** سَيفــــــاً وأطلـقَ صَرفــــــهُـن غِـراري
زَمَنٌ كأمِ الكلبِ تَرأَمُ جَروَهَــــــــــــا ***** وتَصُـدُّ عـن ولَــــــدِ الهِزَبـرِ الـضَّـاري (11)
يرى أبو بكر الحموي في (خزانة أدبه وغاية أربه)  : " وهذه القصيدة يرثي بها ولده وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها : 
 ومكلف الأيام ضد طباعها **** متطلب في الماء جذوة نار  
 جبلت على كدر وأنت تريدها  ** صفوا من الأقذاء والأقذار
 وإذا رجوت المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شفير هار 
 فالعيش نوم والمنية يقظة *******  والمرء بينهما خيال سار  
وما أعلم أن أحدا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات ومنها يشير إلى ولده وهو من المعاني المستغربة : 
   جاورت أعدائي وجاور ربه  *** شتان بين جواره وجواري" (12)  
وأخيرا ًنتطرق قليلاً إلى إنموذج آخر من شعره  ، إذ يذكر الباخرزي في (دميته وعصرته) ، وله شعر أدق من دين الفاسق وأرق من دمع العاشق، كأنما روح بالشمال أو علل بالشمول، فجاء كنيل البغية ودرك المأمول . ثم يروي بعض أبيات قصيدة رائية أخرى له ، مقدماً لها : فمن محاسنه التي تعلق في كعبة الفصاحة، قوله ، ونحن ننقحها  ، ونزيد  وننقص منها  حسب اجتهادنا في انتقاء الجميل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد !! :    
كن من لواحظ عينيها على حذر ****** فإن ألحاظها أمضى من البتر
أهتز عند تمنّي وصلها طربا  *******  وربّ أمنيـــــةٍ أحلى من الظفر
تجني عليّ وأجني من مراشفها * ففي الجني والجنايات انقضى عمري
أهدى لنا طيفها نجدا وساكنه **** حتى اقتنصنا ظباء البدو في الحضر
فبات يخلو لنا من وجهها قمرا ******* مـــن البراقــــع لولا كلفة القمر
وراعها حر أنفاسي فقلت لها :  ***هواي نــــار، وأنفاسي مــــن الشرر
فما نكرنا من الطيف الملم بنا ******ممن هوينــــاه إلا قلــــة الخفـــــــرِ(13)
ونكمل المشوار مع (دوازين الشعر العربي على مر العصور) ،فمن بدائعه في هذه الرائية قوله :
لولاه لم يقضِ في أعدائه قـــــلم  *** ومجلب الليث ، لــولا الليث كالظفر
ما ضرّ إلا وضلت بيضُ أنصله ***** في الهام أو سمُر الأرماح في الثغر
وليس كل سوادٍ بصّ أســــــودهُ **** فيما سوى العين معدوداً من الحورَ
ولا يعدّان في عين امرئٍ حـــــوراً ******* إلا إذا اجتمـــعا فيها على قدرِ
لما وطئت دمشقاً بيع مـــــا وطئت ***** منها التــراب بسعر العنبر الذّفر
ً وكلما شحَّ أهلُ الدهر زدتَ نــــــدى  ***** بظلمة الشعر تبدو زينــة الغرر
أما العراق فيثني جيـــــدَ ملتـــفتِ ***** شـــوقاً إليـــك ويرعى عينَ منتظر(14) 
ونرجع للباخرزي  ولبيت من القصيدة السابقة ، كنا قد فصلناه لنفسح المجال له كي يشبهه ببيت لابن المعتز قائلاً بعد ذكر بيت التهامي المفصول :
  " وغادرت في العِدا طَعناً يحفُّ بهِ ***  ضربٌ كما حَفَّتِ الأعكانُ بالسُّرَر
قلت: هذا والله هو المعنى البيع، والربيع المريع، والتشبيه للائق،والغرض الموافق وقد كان يملكني الإعجاب بقول ابن المعتز : 
وتحتَ زنابيرٍ شَدَدْنَ عقودَها ***  زنابيرُ أعكانٍ معاقدُها السُّرر " (15)
يكفينا هذا من هذا ،(16)  وإلى تراث أدبي جديد نجدده ، وإن غداً لناظره قريبُ !!!
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) سير أعلام النبلاء : الذهبي - 17 / 382 - الهامش - الموسوعة الشاملة .
 (2)  أبو الحسن علي التهامي - الموسوعة الحرة  
https://ar.wikipedia.org/wiki
  ( 3 ) مجالس الفرده  : قصيدة التهامي كاملة مع الشرحhttp://www.alfredah.net/forum/threads/alfredah4515/
(4) م. ن . 
(5)  دمية القصر وعصرة أهل العصر : الباخرزي - 1 / 17 - الوراق - الموسوعة الشاملة .
   (6)  أبو الحسن علي التهامي - الموسوعة الحرة .  
(7) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان : أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ، تحقيق : إحسان عباس - ج 3 ص 378 - 381 - دار صادر - بيروت - طبعة : 0 ، 1900م 
(8)  دمية القصر وعصرة أهل العصر : الباخرزي - 1 / 17 - الوراق - الموسوعة الشاملة .
  (9) البداية والنهاية : ابن كثير - ج 12 ص 25 - موقع اليعسوب - الموسوعة الشاملة ، وفي الهامش  :  في الوفيات 3 / 380: طبعت على كدر وأنت تريده
(10)  دمية القصر وعصرة أهل العصر : الباخرزي - 1 /  17  - 16  - الوراق - الموسوعة الشاملة .
  ( 11 ) مجالس الفرده  : قصيدة التهامي كاملة مع الشرح
 حذفت الشرح لأنه شرح كلاسيكي للمفردات ، ورتبتها وناسقت بين أبياتها  
http://www.alfredah.net/forum/threads/alfredah4515/
( 12 )  خزانة الأدب وغاية الأرب : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري - ج 1 ص 35 - الناشر : دار ومكتبة الهلال - بيروت - ط 1 - 1987م - تحقيق عصام شعيتو .
(13)  دمية القصر وعصرة أهل العصر : الباخرزي - 1 / 17 - الوراق - الموسوعة الشاملة .
  (14) دواوين الشعر العربي على مر العصور - ج 78 ص 45 ، رقم القصيدة رقم القصيدة : 59373
 موقع أدب الموسوعة الشاملة
(15)  دمية القصر وعصرة أهل العصر : الباخرزي - 1 / 16 - الوراق - الموسوعة الشاملة .
(16) ارجع إلى هذا المصدر ، إذ يذكر مراجع البحث عن التهامي ، ونحن رجعنا  إلى معظمها :(شاعر وقصيدة) - حكم المنية - أبو الحسن التهامي - د. بدر عبد الحميد هميسه - موقع صيد الفوائد . 
http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/56.htm
يذكر :  تجد ترجمته في " وفيات الأعيان " 3 / 381 ، الأنساب 3 / 224، الوافي بالوفيات 2 / 181، طبقات السبكي 4 / 114، 115، شذرات الذهب 3 / 203 .
 وكذلك راجع ( ديوان أبي الحسن التهامي ) - ص 144 - 1893 - إسكندرية . 

CONVERSATION

0 comments: