رابطةُ البياتي تشتري ولا تبيع/ الأب يوسف جزراوي

الكلمة التي ألقاها رئيس رابطة البياتي للشعر والثقافة والأدب في سيدني خلال أمسية البيّاتي الثانية
أَلفَتُ الفواجعَ  في بلدي،  وصرتُ كاتبًا لها. أتصيدُ مأسيّ الهمِّ اليومي في بلدٍ تُبللُ الدموعُ خَدَيهِ. حينًا أتلصصُ عليها  بوجعٍ، وحينًا آخرَ  أُطاردهُا كأسدٍ جريحْ، حتّى أمسى مذاقُ الوطنِ في فمي مريرًا كالعلقمِ !.
حملتني عربةُ الوطن إلى منفىً بعيدٍ، فأبيتُ وأنا أقبعُ  خلفَ قضبانِ  الغربةِ، إلّا  أنْ اكونَ نوحَ القلمِ وأيوبَ الكلمةِ، في سبيلِ وطنٍ استوطنَ حُبُهُ قلبي، يجولُ في ذاكرتي الموجعة، لا يُبارُحها أبدًا. حقًا غريبةٌ هي الغربةُ أيُها الأصدقاءْ، تجعلنُا نحنُّ لوطنٍ، هربنَا من جحيمِهِ الى قرفِهاِ، غربةٌ تجعلكُ مزروعًا، في كلِّ فضاءاتِ العالم! ولكن، ماذا ينفعُ الإنسانَ، لو انتشرَ في كلِّ الاوطان، وخِسر وُطنَهُ!. فيقيني أننا لم نُخلقْ، لنكونَ شُتاتًا في الارضِ، ولم تَلَدنَا أمهاتنُا لكي نوقدَ شمعةً على روحِ الوطنِ في صومعةِ التشرد.
من منفى الأوطانِ،  أُبللُ قلمي، تارةً بجرحِ الغربة، وتارةً أُخرى بنزيفِ الوطنِ المصلوب، أُخفيْ خلفَ الأجفانِ دمعةَ حزنٍ، على بلدِ الرشيد ومنارةِ المجدِ التليد، وطنٌ كحّلتُ عيني بشاعرٍ من أبنائِهِ، يُدعى البياتي، لفظهُ الوطنُ كما لفظني. فإنّني ما كنتُ أحسبُ يومًا ، أنَّ الغربةَ ستقوُدني إلى عشقِ بلدٍ حلمتُ أن أزرعَ كتاباتي على مفارقِ طرقاتِهِ ورودًا وسنابلَ.
لكن  قلبي، الذي  يُمسكُ بذراعِ الأمنياتْ، لازالَ  يحملُ في رحمِ الأعوامِ محطات، أُعَرفها وتُعرفني، ويقيني أننا سنلتقي في يومٍ ما، في وطنٍ  جُبلتُ من ترابِه،  تكحيلُ العينِ بهِ، يفتحُ بابًا لطيرٍ سجين.
أيُها الأعزاء، يطيبُ لي وأنا محاط بهذه الباقةِ المتنوعةِ الجميلةِ، من الشعراءْ والأدباءْ والمثقفينْ أن أسوقَ لكم حكايةَ حلمٍ، كَم وكَم تمنيتُ أن تتحولَ الى حقيقةٍ وواقعٍ مُعاش. وإليكم الحلم:
لم يُنشدْ البياتي في ذلك المساء، ربّما كان مُنهكًا أو غائبًا وربّما قد مات؟.
كنتُ بأمسِ الحاجةِ إلى صديقٍ، لكي أبوحَ أمامهُ بصرخةِ حنينٍ، لوطنٍ منكودٍ، سلبت الغربةُ هجيعتهَا!
ليالٍ بطولهاِ، لم يغمضْ لي فيها جفنُ.
حُزنُ، ينخرُ العظام، يهدُ الجبالْ.
مئاتُ الأفكارِ والصورْ، تعجُّ في الرأسِ، وتعمي النظرْ.
كنتُ أعدُ دقاتِ الساعةِ البعيدةِ؛ دقةً دقةْ. تلفُحني الرياحُ الخافتةِ،وأتحسسُ لحنَ الاوراقِ المُثّقلّةِ بالثمرْ.
أتلمسُ الغَسَقَ الغافيَ، أصحو واحاولُ الهربَ من سياجاتِ الغربةِ الطويلة.
تُعيدُني إليها قوةُ عاتيةُ تُخللُ الكيانْ.
أترقبُ الفجرَ  بعينينِي مُتعبتينْ.
أفتحهما، فإذا  البياتي قد ولِدَ مِن جديد، واقامَ للرابطةِ أمسيةً في عراقٍ جميل!
إنهُ معنا، يداهُ مبسوطتانِ للتكريمْ،
قَلبُهُ وِسْعَ الكونِ الفسيحْ،
بَسّمتُهُ شُعاعُ الوانْ.
وعيناهُ، آهٍ ....من عينيهِ، مُهيبتان  لا تَهابان!
كان صوُتُهُ وهو يُكلمني يدوّيَ حزنًا وفرحًا:
يا أيها الكاهنُ البغدادي، يا أبنَ كلدو واشور  والرافدين، ألازلت  مُسمرًا على صليبِ الغربةْ،  تنهشُ لحمَك  ثعالبُ السنينْ، ألازلتَ تصرخُ وطنًا  وطنًا، مَن يَبيع ؟  وطنًا وطنًا يا مُحسنين؟ 
ثُمَّ قال: أرى اليومَ الجميعَ بعينٍ جديدةْ، أتطلعُ إلى كلِّ واحدٍ منكم، من أصدقاءِ الماضيَ والحاضر.
غمامةُ غبراء، بنفسجيةُ، دمويةُ اللونِ، إنسحبتْ ، إنقلعتْ، تلاشتْ، وإذا بشلالٍ يغسلُ العينَ، يُنقيها وتتسعُ، إنّها الرؤيةُ الجديدةُ، الجميلةُ، الرائعة.
الكلُّ أضحى واضحًا نيرًا في عيني، بعد أن كانت الألوانُ غامقةً، دمويةً، سوداويةً، غيرَ مستحبةْ.
أما الآنَ، فهي رائقةٌ، متميزةٌ، منسجمةٌ، بهيةْ.
لقد كان الجميعُ في عينِ غربتي أصغرْ،
أما الآنَ، فصرتُ أراهُ أجملَ وأعظم، أسمىَ وأكبر ، وكأني أرى العراقَ مُتجليًا في وجوهِ المكرمينَ، وكلّ الحاضرينَ.
بالأمسِ كان الوطنُ ذكرياتِ عمرٍ أكلتهُ الغربة، أما اليومَ، فلقد اضحى كطفلِ الحياةْ، فسلامُ لكم أيُها الأصدقاءْ، من وطنٍ وجدتُهُ أخيرًا في السماء، وبرابطةٍ تُشيعُ الرجاء، وأنتم كفاكم قولاً: لله يا محسنين، وطنًا وطنًا من يبيع؟! فرابطتي تشتري ولا تَبيع.
إيها الحضورُ الأعزاء: هذا هو هدفُ الرابطةِ، وهدفُ الشعرِ ، وغايةُ الأدبِ وحصيلةُ الثقافةِ. أوليس هذا هو هدفُ لقائنِا اليومَ ؟ أنْ يكونَ الشعرُ وطنًا لنا، وأنْ يكون البياتي جامعًا لشملنِا.
ويقيني بأنَّ الشعراءَ والأدباءَ والمثقفينَ  سيتعاقبون، على إظهار ِ ما كشفوا واكتشفوا من منجمِ البياتي الأدبي، وسينفثٌ مبدعون عرفهم في الأمسِ واليوم، خلجاتِ نفوسٍ عارمةٍ بزخمِ عطائهِ، وسيعرض فنانون ومخرجون لوحاتٍ/ هي روائعُ خلودِهْ.وستظهرُ كتبٌ وآثارٌ  هي حصيلةُ إبداعاتِهِ للأجيالِ. وسنكرّمُ بإسم البياتي اشخاصًا أعطوا الأدبَ من روحِهمِ والفنَ من إبداعِهمِ.
سنُصليْ ونُنشدُ نشيدَ المحبةِ العراقيةْ، ونلتقي على حبِّ العراقِ، وعطاؤكَ ايها البياتي هو المحورُ والغايةُ والهدفُ والدليل.
مرحى بكم أيها الأوفياءْ، وتأكدوا أنَّ البياتي،  يباركُ الآنَ خطواتِكمِ من السماء.
والسلام معكم.

CONVERSATION

0 comments: