بليغ..ملك الموسيقي لازلنا نغني معه/ فاطمة الزهراء فلا



هي مصر تلقي إليه جليدها فيذيبه بلهيب عشقه من يا تري أحبها مثله وخلدها في ألحانه مثله , لقد بلغ به من الهوي ما أضني الفؤاد مجنونها , مداح القمر .
إنه قيس بن الملوح الذي يقول في عشق ليلي :
وعزّة الحب إن الحب أشهدني = عين الحبيب الذي أهواه في خـَـلدي بحيث لو ظهرت في الحسن صورته = لعين حبي لم أنقص ولم أزدِ فحال حضرته كحال غيبته, بالفعل أرقه غرامها في القرب وفي البعد , فأشعل الدنيا موسيقي أحالتها شهبا ونيازكا ورياحينا , إنه العاشق الخرافي الذي ما إن غني أوتغني بلحن رددته الدنيا بأسرها..هائما بغرامها , منتشيا حين تمنحه موعدا ليقابلها وينهل من جمالها .
كان بليغ حمدى مثالا مجسدا لذلك العاشق "الدنجوان" الذى تقلب فى هوى النساء وعذبته منهن واحدة.. لم تتوقف دقات قلبه عند امرأة بعينها.. لم يأخذ رحاله ويحط طويلا أمام دار الحبيبة.. ولا حتى وردة الجزائرية رغم كل ذلك الحب الذى جمع قلبيهما، وذلك الرابط الفنى الذى جمعهما، وحين جاءت نهاية زواجهما كانت بداية حبه.. لمطربة كبيرة أخرى غير مصرية، وبعدها كانت له قصص مع النساء عدة.
إلا أن مصر كانت هى الحب الوحيد التى حفرت حروفها الثلاثة وشما على صدره.. كانت مصر هى غرامه الأخير والكبير والحقيقى، كانت هى الميلاد والممات.. الأرض والقبر.. الوصل والهجر.. كانت هى المرأة الوحيدة التى ضيعته.. والتى تمنى الموت بها فمات غريبا مطرودا من حضنها.
كان بليغ حمدى فياضا فى الموسيقى وعشق النساء.. كان يدخل فى علاقة حب ويخرج منها بنفس السهولة التى يضع بها ألحانه وموسيقاه.. إلا أن مصر كانت غرامه الأصعب والأطول.
كان العباقرة والفنانون والشعراء يشبهون الوطن بالمرأة، كان بليغ حمدى يعتبر مصر امرأة المستحيل، رائعة الحسن، فريدة الصفات تنتفى منها كل العيوب، لذا كان هو أكثر الملحنين صنعا لأغانى الوطن، بل إنه كان يكتب كثيرا من كلمات تلك الأغانى حتى إن نسبها لشاعر آخر.
أغنيات بليغ بعد نصر أكتوبر جاءت نموذجا لحب امرأة مكتملة ساحرة مستحيلة، تلك الأغنيات التى خلدت ذلك النصر فى ضمير البسطاء أكثر مما خلدته السينما فكل الأفلام السينمائية التى واكبت نصر أكتوبر لم تكن على مستوى الحدث العظيم، لكن بليغ وصفها بالموسيقى كما يجب أن تكون.. بل إنه فى النكسة صنع مع عبدالرحمن الأبنودى موال النهار.. تلك الغنوة العبقرية غير المكررة فى تاريخ مصر  و الغناء العربى. .
فيما عُرف الفنان بليغ حمدي بالجمع بين الرومانسية الهادئة والوطنية الحماسية، كما كان يعتمد على إيصال الإيقاع واللحن الموسيقي بشكل يتناسب مع صوت الفنان، إلى جانب بساطة ألحانه وتميزها عن ألحان غيره من المُلحنين. لحّن الفنان بليغ حمدي الكثير من أغانيه لـ الفنانة أم كثوم، ومن الأغاني التي لحّنها لها: حب إية، ظلمنا الحب، أنساك، فات المعاد، سيرة الحب، بعيد عنك، ألف ليلة وليلة، الحب كله، سقط القناع، وحكم علينا الهوى.
أما عن ألحان الفنان بليغ حمدي لـ الفنان عبدالحليم حافظ، فكانت كثيرة، وبلغ عددهم أكثر من 30 لحنًا، وكان منهم: سواح، خايف مرة أحب، تخونوه، مداح القمر، توبة، أعز الناس، زي الهوى، عدى النهار، قومي يا مصر، الهوى هوايا، حاول تفتكرني، جانا الهوى، على حسب وداد قلبي، موعود، أي دمعة حزن لا، ماشي الطريق، عاش اللي قال، حبيبتي من تكون، فدائي، الجزائر، أرضنا الخضرا، يا ليالي محدش خالي، الماء والخضرة، الفجر لاح، وخسارة.
عانقت أنغام بليغ الساحرة مع صوت حليم الشجي منذ نهاية الستينات وحتى منتصف السبعينات ليقدما معا مجموعه من أروع الأغنيات العربية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ( جانا الهوى / الهوى هوايا / توبة / على حسب وداد قلبي/ موعود / مداح القمر / زى الهوى / حاول تفتكرني / أي دمعة حزن لا / حبيبتي من تكون/ سواح / تخونوه / خسارة ) ..
التقى بليغ حمدي بالثنائي محمد رشدي و الأبنودي فى مطلع الستينات وبدأ تفكيره يتجه صوب التراث وكنوز الموسيقى الفلكلورية فعني بتقديم الفلكلور المصري بكافه أنواعه وأرتامه و جمله اللحنية الشجية في صوره عصريه بعد إدخال لمساته الساحرة عليه فقدم فى هذا الإطار لمحمد رشدي من كلمات الأبنودي ( عدويه / بلديات / وسع للنور ) و من كلمات آخرين (ميتى أشوفك / مغرم صبابة / طاير يا هوى/ على الرملة/تغريبه ) وغيرها ..
تزوج من الفنانة ( ورده ) بعد قصه حب عنيفة ، و قدم لها ما يزيد على الثمانين لحنا - صارت فيما بعد التاريخ الحقيقي لورده - نذكر منها ( خليك هنا / لوسألوك/ مالي / دندنة / العيون السود / اشتروني / والله يا مصر زمان / معجزه / ولاد الحلال/ حكايتي مع الزمان/ احضنوا الأيام ) وغيرها الكثير .. إلا انه تم الانفصال بينهما بعد زواج دام ما يقرب من السبع سنوات و بعد رحله فنيه هامه ..
تغنى بألحانه الخلابة جميع المطربين و المطربات الذين كانوا على الساحة وقتها ، و تحمل بمفرده عبء التلحين لجميع الأصوات لمده تزيد على العشر سنوات آثر فيها الملحنون الكبار الصمت و الاكتفاء بما قدموه فى مراحل سابقه ..
تعاون بليغ مع الفنانة شاديه في عده أعمال خالدة تنوعت ما بين أعمال فلكلورية و عاطفية و وطنيه ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (والنبي وحشتنا / اسمر و طيب يا عنب / زفه البرتقال / الحنة / قولوا لعين الشمس / عطشان يا صبايا / خلاص مسافر / و الله يازمن / حبيبتي يا مصر / أدخلوهاسالمين/ آخر ليلة/ خدني معاك/ مكسوفة) و الأغنية الأشهر في تاريخ شاديه( ياأسمراني اللون ) من الفلكلور الشامي ..
تعاون بليغ أيضا مع الفنانة نجاه و قدم لها عده أغاني رائعة ( أنا بستناك / كل شيء راح / الطير المسافر / سلم على / ليله من الليالي / حلاوة الحب/ نسى/ في وسط الطريق و غيرهم )  ..
و كان للفنانة صباح نصيب كبير أيضا ، نذكر مثلا ( عاشقه و غلبانه / يانا يانا / زى العسل / جاني و طلب السماح / أمورتى الحلوة/ كل حب و انت طيب )..
اهتم بليغ خلال مشواره الفني بالمسرح الغنائي و قدم عده مسرحيات غنائية و أوبريتات استعراضيه كان أهمها ( مهر العروسة / تمر حنة / ياسين ولدى ) و الملحمة الوطنية  (جميله) من أشعار الشاعر المصري الكبير / كامل الشناوي
وفي ذكراه قدمت المخرجة راندا توفيق فيلما صورت فيه الكثير من مشاهد حياته أهمها:
ويكشف الفيلم عن تجارب مثيرة في مشوار بليغ منها تقديمه لأغنية «ماتزوقيني يا ماما»، التي غنتها مها صبري لأنه ومؤلفها كانا «مفلسين»، وأيضاً توجهه للإذاعة عقب انتصار أكتوبر وإصراره علي تقديم أغان وطنية، ورغم غلق الاستديوهات لعطلة رسمية وقتها إلا أنه قدم «باسم الله» و«أنا علي الربابة» متحملاً تكاليفهما علي نفقته الخاصة لعدم توافر ميزانية في الإذاعة وقتها، استغرقت راندا - التي كان آخر أفلامها «أبوالعلا دمياط» عن نقل كوبري أبوالعلا - خمسة أشهر في إعداد الفيلم والبحث عن المادة الأرشيفية وتصويره،
وتقول: اضطررت للبحث بنفسي عن المادة الفيلمية لعدم توافرها في التليفزيون، واكتشفت أن المادة الفيلمية في التليفزيون ليست موجودة أو موجودة ويرفضون إخراجها، فلم أعرف هل هي متوافرة أم لا، وكان هناك قدر من المعاناة فقد جلست مع كل من قابلته وله علاقة أو لديه معلومة عن بليغ الذي حاولنا إنصافه في ٣٥ دقيقة هي مدة الفيلم، بينما واجهتنا بعض الصعوبات منها طلب بعض المطربين العرب مبالغ خيالية للتسجيل معهم رغم أن بليغ كان صاحب الفضل في اكتشافهم
ويغوص الفيلم في تفاصيل بليغ كإنسان، فقد كان يتشوق للإنجاب خاصة من زوجته السابقة المطربة الجزائرية وردة، ومحاولته تعويض حبه المفقود للأطفال في رعاية أطفال أسرته، كما كان سفره خلال فترة نظر القضية للعلاج، وليس هرباً كما أشيع، بينما قضي هذه السنوات في عذاب الغربة بعيداً عن وطنه
كان بليغ حمدى مصريا عروبيا قوميا، أول فتاة أحبها فى حياته مسيحية اسمها "مارية" جارته فى شبرا وقت أن كان تلميذا.. وكانت المرأة الوحيدة التى تزوجها هى وردة الجزائرية.. ولحن لكل المصريين والعرب من المشرق إلى المغرب: فهد بلان.. وديع الصافى، صباح، ميادة، سميرة سعيد، لطيفة.. فايزة أحمد.
لم يفر بليغ حمدى كما كان يعتقد الجميع إثر الحكم الصادر ضده بعد حادثة سميرة مليان.. فقد كتب رسالة عذبة وقاسية للفنانة شادية من باريس يؤكد فيها أنه سوف يعود لمصر ليواجه مصيره كى لا يموت فى الغربة كانت الرسالة بتاريخ 2-12-1988: "أختى الحبيبة شادية.. ولكل إنسان فى بلدى مصر.. شادية.. أكتب لك من وحدتى القاتلة.. من غربتى النفسية العميقة.. من مرضى الذى يهاجمنى فى كل لحظة: الكبد والمرارة والأعصاب.
شوشو.. أتابعك من هذا البعد العميق فى سفرك ورجوعك.. بألم البعد وفرحة العودة لتراب مصر كما كنت أتمنى رغم المرض أن أنتهى من لحن كلمات صغتها لبلادى وأسميتها "هدية من مغترب"، تصورى أن ينتابنى أخيرا الإحساس بأننى مغترب، لقد قررت العودة إلى مصر بمجرد تسلمى الأشعات والتقارير الطبية..كانت رسالة حزينة وموجعة وكيف يعاني من الغربة والمرض في أيامه الأخيرة , إنه الفنان العاشق للوطن الذي أرقه الشوق وأضناه الفراق فالموت فى بلادى أهون من أى غربة!....توفى بليغ فى 12 سبتمبر 1993 ، عن عمر يناهز 61 عاما ، و نعته الأهرام فى صبيحة اليوم التالي بقولها ( مات ملك الموسيقى ) ، و أعلنت وزاره المالية المصرية أنها بصدد طبع عملة تذكاريه باسمه إلاأن ذلك لم يحدث حتى لحظه كتابه هذه السطور

CONVERSATION

0 comments: